Sunday, July 4, 2010

حقيقة الإسراء والمعراج

تعبير لأحداث أخرى
هكذا الحال أيضا بالنسبة للأحاديث العديدة الخاصة بوصف الإسراء والمعراج علينا أن نفهم حقيقتها ومعانيها على ما يوافق تعبير الرؤيا..

فمثلا قد تعني رؤية بيت حصول الرائي على العز والفلاح؛ وتعني الدابة (أي البراق) أن الراكب سينال مرتبة عالية بعد سفره، ويعني الصعود إلى السماء الأولى أن حياة الرائي تمتد إلى الشيخوخة وأرذل العمر، وبلوغ السماء الثانية يرمز إلى أن الرائي يكون عالما حكيما، وتعني السماء الثالثة العزة والإقبال في الحياة الدنيا. وتعني السماء الرابعة قرب السلطان والحصول على السُلطة؛ وتعني السماء الخامسة الفزع والاضطراب والمخالفة والحرب، وتعني السماء السادسة حصول الرائي على الجاه العريض والسعادة الدائمة؛ ويرمز بلوغ السماء السابعة أن الرائي يبلغ درجة عالية من القدر والمنزلة الرفيعة بحيث لا يدانيه أحد. وعلى العموم فإن فتح أبواب السماء يدل على قبول ا لدعاء والبركة والخير.

وقد تحققت فعلا كل هذه الأمور والأنباء للرسول (صلى الله عليه وسلم).
أما المشاهد الأخرى فهي لا تحتاج إلى تأويل، إذ أنها تصور بعض الخطايا التي سوف يقع فيها الضعفاء من أمة محمد (صلى الله عليه وسلم)، أو التي يقع فيها معارضوه فعلا، أو التي ستقع من أعداء أمته في المستقبل.
وقد عُرضت المشاهد بطريقة رائعة تبين مدى ما تمثله هذه الخطايا من قبح في سلوك الإنسان، ومدى ما ينتظر مرتكبها من عقوبة دنيوية إذ ينفر منهم ذوو الطباع السليمة؛ ومدى ما يستحقونه من عقاب أخروي بسبب استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير.


الإســـراء رؤيا
وفيما يتعلق بالإسراء.. فقد سماه القرآن المجيد في نفس سورة الإسراء (الرؤيا) حيث قال:

{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء:61)
وإذا ادعى بعض المفسرين أن (رؤيا) تعني أيضا رؤية العين فان القرآن المجيد استعملها بمعنى الكشف في مواضع عدة:

{لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} (يوسف:6)

{وَقَالَ يَآ أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (يوسف:101)

{وَنَادَيْنَاهُ أَن يَآ إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (الصافات:105)

وجاء في لسان العرب وأقرب الموارد: الرؤيا ما رأيته في منامك. وفي مجمع البحار: الرؤيا ما رأيته في المنام. وقد ذهب بعض الصحابة رضى الله عنهم وعلماء الحديث إلى أن الإسراء كان كشفا ورؤيا فقط لا رؤية عين. وقد رَوَى ابن إسحاق وابن جرير عن معاوية إذ سُئِلَ عن مسرَى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (كانت رؤيا من الله صادقة) (المنثور ج 4).

ورَوَى ابن إسحاق قال: حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: (ما فُقد جسد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولكن الله أسرَى بروحه) (التفسير الكبير).

أما كون هذه الرؤيا فتنة فقال ابن إسحاق: قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن إسلامه لذلك - أي الإسراء:

{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (سيرة ابن هشام ج 1).

ويقول البعض: لو كان الإسراء روحيا لما اعترض كفار قريش الذين حكى لهم الرسول (صلى الله عليه وسلم)؟ ولكن فات هؤلاء الظروفُ التي حكى فيها المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وطبيعةُ الكشف. إن ما رآه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) كما ذكرنا من قبل ليس من قبيل الرؤيا المنامية التي يراها النائم.. وما كان له ليحكي ما يراه في منامه، وإنما ما رآه النبي (صلى الله عليه وسلم) كان كشفا رآه وهو كامل الحواس.. لأنه وحي إلهي.. فهو أقوى في حقيقته مما يقع لغيره من الناس. كل ما في الأمر أنه لا تصحبه حركة مادية؛ وأن مشاهده رمزية تستلزم التعبير والتأويل.

ثم إن أم هاني رضي الله عنها.. وهي المرأة المؤمنة الحصيفة.. فهمت ما قاله الرسول (صلى الله عليه وسلم)؛ ولم تجد فيه ما يدهشها. لكنها كانت تعرف عقلية كفار مكة وتلمُّسهم الأسباب للتهكم والسخرية، لذلك لما عزم على الخروج أمسكت بردائه، وقالت له تحذره من أن يحكي لهم رؤياه، لأنهم لن يدركوا مغزَى ما رأى، وسيتخذونه مادة للاستهزاء: “يا نبي الله! لا تحدث الناس -أي الكفار المعارضين، بهذا الحديث فيكذبوك ويؤذوك قال: والله لأحدثنهم”.

وبينما المصطفى (صلى الله عليه وسلم) عند الكعبة.. يمر به عدو الله أبو جهل فيسأله في سخرية هل من نبأ جديد؟

والآن لنتسائل فيما بيننا.. ما هي الأنباء التي كان يرويها الرسول (صلى الله عليه وسلم) للناس ويتوقع سماعه أبو جهل؟! كانت أنباء الأمم السابقة وما حل بهم من عقاب إذا خالفوا أنبياءهم، وأنباء مستقبل الإسلام الباهر وما يحيق بأعدائه من عقاب.

وها هو الرسول (صلى الله عليه وسلم) يروي لهذا الساخر المستهزئ ما أراه له الله تعالى.. بلهجة الواثق مما رأى.. المطمئِن لوعد الله تعالى.. يروي بأسلوب من يحكي الأمر الواقع.. وحي الله تعالى: فقال (صلى الله عليه وسلم): نعم، أسريَ بي الليلة.. ولم يدعه عدو الله يكمل حديثه؛ بل أسرع يدعو الناس ليكونوا شهودا معه ويشتركوا معه في السخرية والتكذيب من أصدق البشر (صلى الله عليه وسلم) ولكنه لم يكن حلما، ولو قال ذلك -حاشا له أن يتهرب من الحق- لزادت سخريتهم وتمادوا في تهكمهم. إنه (صلى الله عليه وسلم) يحكي ما رآه حقيقة وصدقا.. وهم لا يدركون تجربة الرؤيا التي يريها الله لعباده.. ويكشف لهم فيها كثيرا من عجائب آياته.

فلا بد وأن يروي لهم الكشف الذي رآه.. وليكذبه من يكذب.. فهذا دأبهم يكذبونه منذ أن قال لهم إنه رسول أمين من رب العالمين.. وليرتد ذوو الإيمان الضعيف الذين جمعوا بين الوهن وسوء الإدراك. أما المؤمنون.. من أمثال الصديق ومن على شاكلته وما أقلهم.. فقد أدركوا وصدقوا واطمأنوا إلى ما تحمله رؤيا رسولهم الكريم من خير عظيم.. تحقق بعد شهور قليلة.. وما انفك يتحقق حتى يومنا هذا.

نعم يا رسول الله، ما كان لك أن تخاف دهشة أبي جهل وأضرابه، فتجعل من الكشف الصادق والرؤيا الحقة حلما يراه النائمون منهم.. ولكنك رويت.. وكان حقا أنك رأيت.. وكان حقا تأويل ما رأيت.. ولقد أسرعت السماء لتكمل لك صدق رؤياك.. وتكرر لك مشهدا لم تركز عليه انتباهك.. وأنت منهمك في صلاتك ولقاء إخوانك.. فمن ينظر إلى الجدران ويذكرها وأمامه هذه المتعة الروحية العظمى..

نعم أسرعت السماء لتكشف لك ما سبق أن كشفته لك منذ ساعات قلائل.. ولتنبه أولئك الذين يظنون أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد ذهب بجسمه ورأى بعين بدنه بيت المقدس.. ثم تختلط عليه الصور المادية بعد فترة وجيزة لأمر بعيد الاحتمال. هذا، وإنّ طَلَبَ المعارضين من المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أن يصف لهم بيت المقدس لأمر يدل على الغباء.. لأن الرحلة تمت في الليل.. ولا يتوقع من زائر الليل لفترة قصيرة أن يلاحظ مثل هذه الأمور.. فكان وصفه لها دليلاً آخر على أن ما رآه كان في حالة الكشف الصادق.. سواء فيما رآه النبي (صلى الله عليه وسلم) ليلا؛ أو رآه أثناء حكايته لأحداث الرحلة.

كما أن وصف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لِمَا شاهده من القافلة والعير ليس من الأمور التي يراها الإنسان ليلا وهو يمضى بسرعة البرق.. ولكن هذه التفاصيل الدقيقة تدل على أنه رآها فعلا في عالم الكشف.. وأن ما سمعه أصحاب البعير الضال، أو أصحاب الماء المشروب، هو أيضا على سبيل الكشف وإن لم يدركوه.

وجدير بالملاحظة أن جبريل لم يمنع الرسول (صلى الله عليه وسلم) من شرب مائهم مع أنه أخبره أنه لو شرب الماء لغرق وغرقت أمته، كما أن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ما كان ليشرب من ماء أو يكشف إناء دون أن يستأذن من أصحابه.

ولقد جاء قدرٌ من كشف الإسراء من القسم الذي تُرى فيه الأمور كما هي في دنيا الواقع.. وهو ما رواه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من مروره بعير بأحد الوديان ودلهم على جمل ضل، ومثل هذا القدر لا يحتاج إلى تأويل، وقد جعله الله تعالى برهانا فوريا على صدق رؤيا المصطفى (صلى الله عليه وسلم) .


أنباء في هذا الكشف
أما المقصد الرئيسي من هذا الكشف والغرض منه فأمر عظيم. فقد أراد الله تعالى أن يخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) ويريه المخرج القريب من تكذيب قريش ومعارضتها وتعذيبها لأتباعه من المؤمنين.. وذلك بهجرته (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة المنورة؛ وما يتعلق بهذا الانتقال من ظفر وانتصار للإسلام.

والمراد من رؤية بيت المقدس هو المسجد النبوي الشريف الذي بناه في المدينة المنورة.. التي بارك الله فيها وما حولها، وأعطاها من المجد والسلطان والعلو في الدنيا والآخرة أكثر من بيت المقدس، ولقد رفع مسجده فيها على كل مساجد الأرض غير المسجد الحرام.
أما لقاؤه الأنبياء وصلاتهم جميعا خلفه فتعبيره أن شريعته ودينه ينسخان كل ما سبق من شرائع الأنبياء؛ وأنه سيكون رسولا وهاديا ومبشرا ونذيرا لكل أمم الدنيا؛ وفيه إشارة إلى أن دعوته تنتشر في أطراف الأرض من أقصاها؛ وأن هجرته إلى مهجره ستكون سببا ومفتاحا لذلك. وفيه النبأ بأنه (صلى الله عليه وسلم) سيملك بيت المقدس وسيكون سيد ملوكها وعلمائها وأهلها أجمعين..

ولو اطلعنا على ما كتبه صاحب "تعطير الأنام" لوجدنا أن تأويل كشف الإسراء يتفق وما ذكرناه، فقد ورد فيه: (تدل رؤية كل مسجد على جهته والتوجه إليها كالمسجد الأقصى والمسجد الحرام ومسجد دمشق ومسجد مصر وما شاكل ذلك. وربما دلت على علماء جهاتهم أو ملوكهم أو نواب ملوكهم).


أنباء تحققت بالهجرة
ومن المناسب أن نطبق هذا التعبير في واقعة الهجرة ونتائجها على الآيات والواقعات:
لقد بدأ الله تعالى قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى}. وقوله {سُبْحَانَ} يُبيّن أن الإسراء ليس إلا رؤيا تتضمن نبأ عن أمر يكون في المستقبل ويظهر سبوحية الله عز وجل. وطبعا لا تثبت سبوحية الله بمجرد إسراء الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى بيت المقدس، ولكنها تتجلى في الهجرة بصورة أعلى وأجلى.. إذ يتم هذا النبأ بواقعة الهجرة وكونها مدعاة لإتمام الأنباء القرآنية الأخرى، من جهاد وقتال وفوز ونجاح للإسلام، ودخول الناس في دين الله، وقيام حكومة ودولة إسلامية، وتأسيس مدنية دينية، واكتساح للشرك من جزيرة العرب.. فحصول كل هذه الأمور يدل على كون الله تعالى (سبوحا). وليس ثمة عاقل يداخله شك في أن أساس الفتوحات الإسلامية كلها هو الهجرة النبوية الكريمة.

أننا لو أمعنا النظر فيما جرَى ليلة الهجرة لتبين لنا أن الله حقا سبوح منزه من كل نقص وعيب؛ ينصر عباده المخلصين. فرغم ما دبره المشركون لقتله (صلى الله عليه وسلم) من حصار لبيته؛ فلقد نبه الله تعالى رسوله إلى الخطر المحدق به، وسهل له الطريق دون معرفة أعدائه، وأعمى عيونهم عنه، بل وحمَى عليًّا رضي الله عنه إذ عرَّض نفسه لخطر القتل لأيام في فراش النبي (صلى الله عليه وسلم) من أجل محبتة له. ولقد غشَّى الله أبصارهم عندما وصلوا إلى الغار، فلم يتمكنوا من رؤية الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه، مع أنهما كانا على قيد شبر منهم. أليست هذه من آيات الله الكبرى؟ أليس الله الذي أجرَى ذلك كله سبوحا؟ أليس لسان حالنا دائما يقول: سبحان الله رب العالمين!

أما قوله (ليلا) فمن المعروف أن المصطفى هاجر ليلا من مكة إلى المدينة، لقد كان جبريل مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في الإسراء، وكذلك كان أبو بكر رضي الله عنه مع المصطفى في هجرته، وهذا إشارة إلى رفعة شأن أبي بكر عند الله تعالى إذ أقامه مقام جبريل (عليه السلام) .. كصاحب ومعين للرسول (صلى الله عليه وسلم) .

وما يجب ذكره أن موسى (عليه السلام) في رؤياه تلقى وحيا يشبه ما قاله الله تعالى عن إسراء الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقد قيل:

{ فَلَمَا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل:9)

وقيل في الإسراء:

{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}

فكما بارك الله لموسى في الأرض التي ستكون فيها شريعته، بارك لمحمد (صلى الله عليه وسلم) في الأرض التي تقوم فيها شريعته.. وكلا الأمرين مصداق لسبوحية الله تعالى.
فبيت المقدس كان مركزا وسببا لتأسيس حكومة إسرائيل وقيام الشريعة الإسرائيلية، كذلك كانت المدينة المنورة والمسجد النبوي مركز الحكومة المحمدية ومهبط الشريعة الإسلامية التي أقامت دولة بني إسماعيل في العالم؛ لذلك نعتها الله.. أي المدينة المنورة.. بالمسجد الأقصى من حيث القدسية والبركة.

ولقد تم النبأ الإلهي {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} في حق المسجد النبوي والمدينة المنورة، إذ أن الله باركها. فقد بارك المدينة المنورة وما حولها، وجعلها حرما بفضل دعاء نبيها (صلى الله عليه وسلم) إذ قال: (إن إبراهيم حرَّم مكة ودعا لأهلها، وإني حرَّمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لمكة). صحيح مسلم.

ثم قال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا) صحيح البخاري. وقال: (اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة). صحيح البخاري.. وقال عن مسجده: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) (صحيح البخاري). وقال أيضا: (أنا آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد -أي أفضلها-) (صحيح البخاري. وهكذا بارك الله في المسجد النبوي ومدينته كما بارك بيت المقدس في زمن بني إسرائيل، بل إنه بارك في المدينة المنورة عاصمة للإمبراطورية الإسلامية فكان الإسلام دائما آخذا في الرقي والانتشار.
ولكن لما غير الخلفاء المسلمون عاصمة الإسلام توقف رقي الإسلام وبدأ في الضعف والاختلال، وظهرت الاختلافات الذاتية والحروب الداخلية ولم تنته حتى يومنا هذا.
ومن مظاهر البركة التي نزلت بالمدينة بهجرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إليها ما رَوته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (كان وباء الحمَّى بالمدينة قبل قدوم النبي (صلى الله عليه وسلم)- قيل في كتب اللغة أن المدينة كانت تسمى يثرب ومعناه البكاء والصراخ لكثرة بكاء أهلها على موتاهم من مرض الحمى - فلما قدم (صلى الله عليه وسلم) إليها زال وباء الحمى بدعائه فسماها المدينة المنورة).

وأما قوله {لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا} فكما سبق أن أشرنا من كثرة الآيات والمعجزات الباهرات والغزوات القاهرة للشرك وأهله التي وقعت بعد الهجرة.. وظهور الإسلام على أعدائه وإعلاء كلمته في جزيرة العرب وغيرها.. أكبر آية من آيات ربه (صلى الله عليه وسلم) ودونها الآيات الأخرى.

ولقد كشف الله كل هذه الآيات باختصار وجمال على طريق المثال في كشف الإسراء.. ولكنه ذكر أن وقوعها في عالم الحقيقة والواقع سوف يتم في المستقبل بالتفصيل والوضوح الذي رآه في الكشف، وسيكون ذلك بطريقة تدفع الدنيا إلى الأقرار بأن الله تعالى (سبوح).. وتحقق له {لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا} ولن يعمَى عن هذه الآيات إلا المعاند أو المتعصب.

والقسم الأخير من آية الإسراء {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أيضا يؤيد رأينا لأن مشاهدة بيت المقدس وحده في اليقظة أو في المنام أو في الكشف، لا يدل على كونه تعالى سميعا بصيرا، وهذا يوجب الاعتراض على أن القرآن يأتي بألفاظ في غير محلها.. ولكن هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهي الدليل الأكبر على أنه تعالى هو السميع البصير.

لقد سمع دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) وتضرعاته هو وأصحابه لخلاصهم من كيد الكفار وظلمهم، ولإعلاء كلمة الله وانتشار الإسلام.. ففتح لذلك باب الهجرة، وجعلها أساسا وأكبر ذريعة لنشر رسالة التوحيد والحضارة الإسلامية، وسمع أيضا دعاء أبيه إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) من قبل إذ قال:

{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} (البقرة:129)

إن الهجرة هي التي يسرت للرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يتلو على أتباعه آيات الله تعالى، ويزكي المؤمنين، ويعلمهم الكتاب والحكمة بحرية تامة. وهو -جل وعلا- بصير لأنه حمَى الإسلام والنبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين.. في المدينة وفي كل المواقع.. وحفظهم من مكائد الكفار في كل موطن، وهو حافظ ومازال حافظا للإسلام والقرآن. وكل هذا هو الدليل على أنه بصير يحيط بصره بكل شيء. فليعلم الذين لا يؤمنون بالحق حتى وبعد ظهور الآيات الكبرى، وليعلم المنافقون والضعفاء في الإيمان بأنه سوف يجازيهم حسب آثامهم ويحاسبهم حسابا شديدا.

والمسجد الأقصَى يشير أيضا إلى بيت المقدس نفسها، وتأويل ذهاب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إلى هناك يحمل نبأ غيبيا بأنه (صلى الله عليه وسلم) سيملك تلك البلاد، وسوف تكون من مراكز الإسلام الهامة.

ولقد تحقق هذا النبأ بعد سنوات معدودة.. وعلى يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل الإسلام بيت المقدس ومكث في أيديهم ثلاثة عشر قرنا. ورغم أنها ذهبت اليوم إلى أيدي النصارى واليهود.. إلا أن ذلك قد تم حسب نبأ أنبأه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) .. ولسوف تعود هذه البلاد المقدسة إلى أيدي المسلمين، إن عاجلا أو آجلا حسب نبوءته (صلى الله عليه وسلم) .

وإذا أخذنا بتعبير رؤية المسجد، وهو علماء البلاد التي بها المسجد، فقد تحقق ذلك أيضا لأن بيت المقدس كانت مركزا عظيما لعلماء المسلمين ومحققيه. خرج منها الكثيرون من مشاهير الإسلام ومحدثيه.

هذا وإن إسراء الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى المسجد الأقصى يشير أيضا إلى أنه عندما تضعف شوكة الإسلام، وتغطي الأرض ظلمة الهجران لكتاب الله ودينه وشرعه، وعندما يلقي المسلمون بأنفسهم تحت سيطرة الغرب الصليبي.. تسري بركات المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إلى رجل من أمته.. هناك في أقصى بلاد الإسلام، ليكون مسجده مركزا لبركات العلم المحمدي، ومنارة لإشاعة الإسلام الصحيح، فينير العالم بفيوض الإسلام والقرآن، ليفيق المسلمون من غفلتهم ويرجعوا إلى الدين الصحيح، ويحوزوا نفس البركات والأنوار والمجد والحياة التي أعطيت لأتباع أنبياء بني إسرائيل؛ والتي أعطيت للمهاجرين والأنصار. وهناك يتحقق قول الله تعالى:
{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتُلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الجمعة:3)

وسوف تبدو عزة الله تعالى وحكمته في إحياء الإسلام وتجديده ببركة محمد صلى الله عليه وسلم في بعثته الثانية وعلى يد الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام.



^ إلى أعلى الصفحة ^


طباعة إرسل لصديق

No comments:

Post a Comment